الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
والتحقيق أن حكمها غير منسوخ، لأن القرآن لا يثبت نسخ حكمهن إلا بدليل يجب الرجوع إليه، والآيات التي زعم من ادعى النسخ: أنها ناسخة لها كقوله: {ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] وقوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} [البقرة: 282] وقوله: {وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: 4] أعم منها.والجمهور على أن الأعم لا ينسخ الأخص خلافًا لأبي حنيفة.أما حديث جابر المشار إليه الذي يفهم منه قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض في حد الزنى. فقد قال فيه أبو داود رحمه الله في سننه: حدثنا يحيى بن موسى البلخي، ثنا أبو أسامة قال مجالد: أخبرنا عن عامر عن جابر بن عبدالله، قال: جاءت اليهود برجل وامرأة منهم زنيا فقال: ائتوني بأعلم رجلين منكم الحديث. وفيه: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشهود، فجاءوا بأربعة فشهدوا بأنهم رأوا ذكره في فرجها مثل الميل في المكحلة، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجمهما. انتهى محل الغرض منه.وظاهره المتبادر منه: أن الشهود الذين شهدوا من اليهود كما لا يخفى فظاهر الحديث، دال دلالة واضحة على قبول شهادة الكفار بعضهم على بعض، في حد الزنى، إن كان صحيحًا، والسند المذكور الذي أخرجه به أبو داود لا يصح لأن فيه مجالدًا وهو مجالد بن سعيد بن عمير بن بسطام بن ذي مران بن شرحبيل الهمداني أبو عمرو، ويقال أبو سعيد الكوفي، وأكثر أهل العلم على ضعفه، وعدم الإحتجاج به، والإمام مسلم بن الحجاج، إنما أخرج حديثه مقرونًا بغيره، فلا عبرة بقول يعقوب بن سفيان، إنه صدوق ولا بتوثيق النسائي له مرة، لأنه ضعفه مرة أخرى، ولا بقول ابن عدي إن له عن الشعبي، عن جابر أحاديث صالحة، لأن أكثر أهل العلم بالرجال على تضعيفه، وعدم الاحتجاج به أما غير مجالد من رجال سند أبي داود فهم ثقات معروفون، لأن يحيى بن موسى البلخي ثقة، وأبو أسامة المذكور فيه هو حماد بن أسامة القرشي مولاهم، وهو ثقة ثبت، ربما دلس وكان بأخرة يحدث من كتب غيره، وعامر الذي روى عنه مجالد هو الإمام الشعبي وجلالته معروفة.والحاصل: أن مثل هذا السند الذي فيه مجالد المذكور، لا يجب الرجوع إليه عن عموم النصوص الصحيحة المقتضية، أن الكفار لا تقبل شهادتهم مطلقًا، والله تعالى أعلم.الفرع الرابع: اعلم أن أهل العلم قد اختلفوا في اشتراط اتحاد المجلس لشهادة شهود الزنا، وعلى اشتراط ذلك لو شهدوا في مجلسين أو مجالس متفرقة، بطلت شهادتهم، وحدوا حد القذف. وعلى عدم اشتراط اتحاد المجلس تصح شهادتهم ولو جاءوا متفرقين، وأدوا شهادتهم في مجالس متعددة، وممن قال باشتراط اتحاد المجلس: مالك وأصحابه وأبو حنيفة وأصحابه، وأحمد وأصحابه، وممن قال بعدم اشتراط اتحاد المجلس: الشافعي، وعثمان البتي، وابن المنذر.قال في المغني: وإنما قالوا بعدم اشتراط ذلك لقوله تعالى: {لَّوْلاَ جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 13] ولم يذكر المجلس. وقال تعالى: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت} [النساء: 15] ولأن كل شهادة مقبولة، إن اتفقت تقبل إذا افترقت في مجالس كسائر الشهادات، ولنا أن أبا بكرة، ونافعًا، وشبل بن معبد شهدوا عند عمر رضي الله عنه على المغيرة بن شعبة بالزنى ولم يشهد زياد فحد الثلاثة، ولو كان المجلس غير مشترط لم يجز أن يحدهم، لجواز أن يكملوا برابع في مجلس آخر، ولأنه لو شهد ثلاثة فحدهم، ثم جاء رابع فشهد لم تقبل شهادته، ولولا اشتراط اتحاد المجلس لكملت شهادتهم، وبهذا فارق سائر الشهادات.وأما الآية فإنها لم تتعرض للشروط، ولهذا لم تذكر العدالة، وصفة الزنى ولأن قوله: {ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم} [النور: 4] لا يخلو من أن يكون مطلقًا في الزمان كله أو مقيدًا، ولا يجوز أن يكون مطلقًا، لأنه يمنع من جواز جلدهم، لأنه ما من زمن إلا يجوز أن يأتي فيه بأربعة شهداء، أو بكمالهم إن كان قد شهد بعضهم فيمتنع جلدهم المأمور به، فيكون تناقضًا، وإذا ثبت أنه مقيد فأولى ما قيد به المجلس، لأن المجلس كله بمنزلة الحال الواحدة، ولهذا ثبت فيه خيار المجلس، واكتفى فيه بالقبض فيما يعتبر القبض فيه إذا ثبت هذا، فإنه لا يشترط اجتماعهم حال مجيئهم، ولو جاءوا متفرقين واحدًا بعد واحد في مجلس واحد، قبلت شهادتهم.وقال مالك وأبو حنيفة: إن جاءوا متفرقين فهم قذفة، لأنهم لم يجتمعوا في مجيئهم، فلم تقبل شهادتهم، كالذين لم يشهدوا في مجلس واحد ولناقصة المغيرة، فإن الشهود جاءوا واحدًا بعد واحد وسمعت شهادتهم، وإنما حدوا لعدم كمالها.وفي حديثه أن أبا بكرة قال: أرأيت إن جاء آخر يشهد أكنت ترجمه؟ قال عمر: إي والذي نفسي بيده، ولأنهم اجتمعوا في مجلس واحد أشبه ما لو جاءوا وكانوا مجتمعين، ولأن المجلس كله بمنزلة ابتدائه لما ذكرناه، وإذا تفرقوا في مجالس فعليهم الحد، لأن من شهد بالزنى، ولم يكمل الشهادة يلزمه الحد لقوله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] انتهى من المغني لابن قدامة.وقد عرفت أقوال أهل العلم في اشتراط اتحاد المجلس لشهادة شهود الزنى وما احتج به كل واحد من الفريقين.قال مقيده عفا الله عنه وغفر له: أظهر القولين عندي دليلًا هو قبول شهادتهم، ولو جاءوا متفرقين في مجالس متعددة، لأن الله جل وعلا صرح في كتابه بقبول شهادة الأربعة في الزنى، فإبطالها مع كونهم أربعة بدعوى عدم اتحاد المجلس إبطال لشهادة العدول بغير دليل مقنع يجب الرجوع إليه، وما وجه من اشترط اتحاد المجلس قوله به لا يتجه كل الاتجاه، فإن قال: الشهود معنا من يشهد مثل شهادتنا، انتظره الإمام، وقبل شهادته، فإن لم يدعو زيادة من شهود ولا علم الحاكم بشاهد أقام عليهم الحد، لعدم كمال شهادتهم، هذا هو الظاهر لنا من عموم الأدلة، وإن كان مخالفًا لمذهب مالك، وأبي حنيفة، وأحمد، والعلم عند الله تعالى.تنبيه:اعلم أن مالكًا وأصحابه يشترط عندهم زيادة على أداء شهود الزنى شهادتهم في وقت واحد، أن يكونوا شاهدين على فعل واحد، فلو اجتمعوا ونظر واحد بعد واحد؛ لم تصح شهادتهم على الأصح من مذهب مالك، لاحتمال تعدد الوطء وأن يكون الزاني نزع فرجه من فرجها بعد رؤية الأول، ورأى الثاني إيلاجًا آخر غير الإيلاج الذي رآه من قبله، لأن الأفعال لا يضم بعضها إلى بعض في الشهادة عندهم، ومتى لم تقبل شهادتهم حدوا حد القذف. ومشهور مذهب مالك أيضًا: وجوب تفرقتهم أعني شهود الزنى خاصة، دون غيرهم من سائر الشهود.ومعناه عندهم: أنه لابد من إتيانهم مجتمعين، فإذا جاءوا مجتمعين فرق بينهم عند أداء الشهادة فيسأل كل واحد منهم دون حضرة الآخرين، ويشهد كل واحد منهم، أنه رآه أدخل فرجه في فرجها، أو أولجه فيه، ولابد عندهم من زيادة كالمرود في المكحلة ونحوه، ويجوز للشهود النظر إلى عورة الزانيين، ليمكنهم أن يؤدوا الشهادة على وجهها، ولا إثم عليهم في ذلك، ولا يقدح في شهادتهم لأنه وسيلة إقامة حد من حدود الله، ومحل هذا إن كانوا أربعة فإن كانوا أقل من أربعة لم يجز لهم النظر إلى عورة الزاني إذ لا فائدة في شهادتهم، ولأنهم يجلدون حد القذف.وقال بعض المالكية: لا يجوز لهم النظر إلى عورات الزناة، ولو كانوا أربعة، لما نبه عليه الشرع من استحسان الستر، ويندب للحاكم عند المالكية سؤال الشهود في الزنى عما ليس شرطًا في صحة الشهادة، كأن يقول لكل واحد من الشهود بانفراده، دون حضرة الآخرين على أي حال رأيتهما وقت زناهما، وهل كانت المرأة على جنبها الأيمن، أو الأيسر، أو على بطنها، أو على قفاها، وفي أي جوانب البيت ونحو ذلك، فإن اختلفوا بأن قال أحدهم: كانت على قفاها، وقال الآخر: كانت على جنبها الأيمن ونحو ذلك بطلت شهادتهم، لدلالة اختلافهم على كذبهم، وكذلك إن اختلفوا في جانب البيت الذي وقع فيه الزنى.ولا شك أن مثل هذا السؤال أحوط في الدفع عن أعراض المسلمين، لأنهم إن كانوا صادقين لم يختلفوا، وإن كانوا كاذبين علم كذبهم باختلافهم، وقد قدمنا ما يستأنس به لتفرقة شهود الزنى، وسؤالهم متفرقين في قصة سليمان وداود في المرأة التي شهد عليها أربعة، أنها زنت بكلبها فرجمها داود فجاء سليمان بالصبيان، وجعل منهم شهودًا، وفرقهم وسألهم متفرقين عن لون الكلب الذين زنت به، فأخبر لك واحد منهم بلون غ ير اللون الذي أخبر به الآخر، فأرسل داود للشهود، وفرقهم وسألهم متفرقين عن لون الكلب الذي زنت به، فاختلفوا في لونه كما تقدم إيضاحه.واعلم أن كلما يثبت به الرجم يثبت به الجلد فطريق ثبوتهما متحدة لا فرق بينهما كما لا يخفى.الفرع الخامس: اعلم أنه إذا شهد اثنان: أنه زنى بها في هذا البيت، واثنان: أنه زنى بها في بيت آخر، أو شهد كل اثنين عليه بالزنى في بلد غير البلد الذي شهد عليه فيه صاحباهما، أو اختلفوا في اليوم الذي وقع فيه الزنى. فقد اختلف أهل العلم هل تقبل شهادتهم، نظرًا إلى أنهم أربعة شهدوا بالزنى، أو لا تقبل، لأنه لم تشهد أربعة على زنى واحد، فكل زنى شهد عليه اثنان، ولا يثبت زنى باثنين؟قال ابن قدامة في المغني: الجميع قذفة وعليهم الحد، وبهذا قال مالك، والشافعي، واختار أبو بكر أنه لا حد عليهم، وبه قال النخعي وأبو ثور وأصحاب الرأي، لأنهم كملوا أربعة، ولنا أنه لم يكمل أربعة على زنى واحد، فوجب عليهم الحد كما لو انفرد بالشهادة اثنان وحدهما. فأما المشهود عليه، فلا حد عليه في قولهم جميعًا، وقال أبو بكر: عليه الحد، وحكاه قولًا لأحمد، وهذا بعيد، فإنه لم يثبت زنى واحد بشهادة أربعة، فلم يجب الحد، ولأن جميع ما تعتبر له البينة يعتبر فيه كمالها في حق واحد، فالموجب للحد أولى، لأنه مما يحتاط فيه ويدرأ بالشبهات؛ وقد قال أبو بكر: إنه لو شهد اثنان أنه زنى بامرأة بيضاء، وشهد اثنان أنه زنى بسوداء فهم قذفة ذكره القاضي عنه، وهذا ينقض قوله انتهى منه، ثم قال: وإن شهد اثنان أنه زنى بها في زاوية بيت، وشهد اثنان أنه زنى بها في زاوية منه أخرى، وكانت الزاويتان متباعدتين، فالقول فيهما كالقول في البيتين وإن كانتا متقاربتين كملت شهادتهم، وحد المشهور عليه، وبه قال أبو حنيفة، وقال الشافعي: لا حد عليه، لأن شهادتهم لم تكمل، ولأنهم اختلفوا في المكان، فأشبه ما لو اختلفا في البيتين، وعلى قول أبي بكر تكمل شهادتهم، سواء تقاربت الزاويتان، أو تباعدتا، ولنا أنهما إذا تقاربتا أمكن صدق الشهود، بأن يكون ابتداء الفعل في إحداهما وتمامه في الأخرى أو ينسبه كل اثنين إلى إحدى الزاويتين لقربه منها فيجب قبول شهادتهم كما لو اتفقوا، بخلاف ما إذا كانتا متباعدتين، فإنه لا يمكن كون المشهود به فعلًا واحدًا.فإن قيل: فقد يمكن أن يكون المشهود به فعلين، فلم أوجبتم الحد مع الاحتمال، والحد يدرأ بالشبهات؟ قلنا: ليس هذا بشبهة، بدليل ما لو اتفقوا على موضع واحد، فإن هذا يحتمل فيه والحد واجب، والقول في زمان كالقول في هذا، وأنه متى كان بينهما زمن متباعد لا يمكن وجود الفعل الواحد في جميعه، كطرفي النهار لم تكمل شهادتهم، ومتى تقاربا كملت شهادتهم انتهى من المغني:قال مقيده عفا الله عنه وغفر له؛ فقد رأيت كلام أهل العلم في هذا الفرع والظاهر أنه لا تكمل شهادة الأربعة إلا إذا شهدوا على فعل واحد في مكان متحد ووقت متحد؛ فإن اختلفوا في الزمان أو المكان حدوا، لأنهما فعلان، ولم يشهد على واحد منهما أربعة عدول، فلم يثبت واحد منهما، والقول بتلفيق شهادتهم، وضم شهادة بعضهم إلى شهادة بعض لا يظهر، وقد علمت أن مالكًا وأصحابه زادوا أن تكون شهادة الأربعة على إيلاج متحد، فلو نظروا واحدًا بعد واحد مع اتحاد الوقت والمكان لم تقبل عنده شهادتهم حتى ينظروا فرجه في فرجها نظرة واحدة في لحظة واحدة، وله وجه.الفرع السادس: إن شهد اثنان أنه زنى بها في قميص أبيض، وشهد اثنان أنه زنى بها في قميص أحمر، أو شهد اثنان أنه زنى بها في ثوب كتان، وشهد اثنان أنه زنى بها في ثوب خز.فقد اختلف أهل العلم هل تكمل شهادتهم أو لا؟ فقال بعضهم: لا تكمل شهادتهم، لأن كل اثنين منهما تخالف شهادتهما شهادة الاثنين الآخرين، وممن روى عنه ذلك الشافعي، وقال بعضهم: تكمل شهادتهم قائلًا: إنه لا تنافي بين الشهادتين، لإمكان أن يكون عليه قميصان فذكر كل اثنين أحد القميصين، وتركا ذكر الآخر؛ فيكون الجميع صادقين؛ لأن أحد الثوبين الذي سكت عنه هذان هو الذي ذكره ذانك كعكسه: فلا تنافي، ويمكن أن يكون عليها هي قميص أحمر؛ وعليه هو قميص أبيض كعكسه أو عليه هو ثوب كتان، وعليها هي ثوب خز كعكسه فيمكن صدق الجميع؛ وإذا أمكن صدقهم فلا وجه لرد شهادتهم؛ وبهذا جزم صاحب المغني موجهًا له بما ذكرنا.
|